وللمناسبة لا يسعني إلا ان أعرض مقطع للنبي جبران حينما واجه رجال الدين المفسدين في الارض، متبعا طريق السيد المسيح الذي تمرّد على السلطة الدينية (Establishment) المتمثّلة بالحاخامين، وقد جاءت تعاليمه مناهضة للشريعة المتحجّرة التي قيّدت الإنسان بدل أن تحرّره، فالله مع يسوع المسيح أصبح عالميّا يخصّ كل الشعوب ولا يختصّ فقط بشعب واحد مختار، الله مع المسيح اصبح اقرب الى البسطاء والمحتاجين والمظلومين والمسحوقين والضعفاء، وأقام مع هؤلاء علاقة مباشرة لا تمر بواسطة، ونبذ في المقابل كل صاحب نفوذ ومال وظالم وعنجهي وقوي، وقد عرض جبران خليل جبران هذا الأمر بأبهى صوره، وما زال يصلح في عالمنا اليوم الذي يفوق الظلم فيه أضعاف ظلم الأمس، يبرزه جبران من خلال كتابه "عرائس المروج، في يوحنا المجنون" حينما قال:
أنظر يا يسوع الناصري الجالس في قلب الدائرة الأعلى، انظر من وراء القبة الزرقاء الى هذه الأرض التي لبست بالأمس من عناصرها رداء. أنظر ايها الحارس الأمين فقد خنقت أشواك الوعر أعناق الزهور التي انعشت بذورها بعرق جبينك، انظر ايها الراعي الصالح فقد نهشت مخالب الوحوش ضلوع الحمل الضعيف الذي حملته على منكبيك، أنظر فدماؤك الزكية قد غارت في بطن الأرض، ودموعك السخينة قد جفت في قلوب البشر، وأنفاسك الحارة قد تضعضعت امام رياح الصحراء، وأصبح هذا الحقل الذي قدسته قدماك ساحة قتال تسحق فيها حوافر الاقوياء ضلوع المنطرحين وتنتزع اكف الظالمين أرواح الضعفاء...إن صراخ البائسين المتصاعد من جوانب هذه الظلمة لا يسمعه الجالسون باسمك على العروش، ونواح المحزونين لا تعيه آذان المتكلمين بتعاليمك فوق المنابر، فالخراف التي بعثتها من أجل كلمة الحياة قد انقلبت كواسر تمزق بأنيابها أجنحة الخراف التي ضممتها بذراعيك، وكلمة الحياة التي انزلتها من صدر الله قد توارت في بطون الكتب وقام مقامها ضجيج مخيف ترتعد من هوله النفوس.
لقد اقاموا يا يسوع لمجد أسمائهم كنائس ومعابد كسوها بالحرير المنسوج والذهب المذوّب وتركوا أجساد مختاريك الفقراء عارية في الأزقة الباردة وملأوا الفضاء بدخان البخور ولهيب الشموع، وتركوا بطون المؤمنين بألوهيتك خالية من الخبز، وأفعموا الهواء بالتراتيل والتسابيح، فلم يسمعوا نداء اليتامى وتنهيدات الأرامل.
تعال ثانية يا يسوع الحي واطرد باعة الدين من هياكلك، فقد جعلوها مغاور تتلوّى فيها افاعي روغهم واحتيالهم. تعال وحاسب هؤلاء القياصرة، فقد اغتصبوا من الضعفاء ما لهم وما لله. تعال وانظر الكرمة التي غرستها يمينك، فقد اكلت جذوعها الديدان وسحقت عناقيدها أقدام ابن السبيل. تعال وانظر الذين ائتمنتهم على السلام، فقد انقسموا على ذواتهم وتخاصموا وتحاربوا، ولم تكن أشلاء حروبهم غير نفوسنا المحزونة وقلوبنا المضنكة...في أعيادهم واحتفالاتهم يرفعون اصواتهم بجسارة قائلين: المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وبالناس المسرّة، فهل يتمجد أبوك السماوي بأن تلفظ اسمه الشفاه الأثيمة والألسنة الكاذبة؟ وهل على الأرض سلام وابناء الشقاء في الحقول يفنون قواهم امام وجه الشمس ليطعموا فم القوي ويملأوا جوف الظالم؟... ما هو السلام يا يسوع الحلو؟ هل هو في أعين الأطفال المتكئين على صدور الأمهات الجائعات في المنازل المظلمة الباردة؟ أم في اجساد المعوزين النائمين على أسرة حجرية يتمنون القوت الذي يرمي به قسس الدير الى خنازيرهم المسمنة ولا يحصلون عليه؟ ما هي المسرة يا يسوع الجميل؟ أبأن يشتري الأمير بفضلات الفضة قوى الرجال وشرف النساء، وبأن نسكت ونبقى عبيدا بالنفس والجسد لمن يدهشون أعيننا بلمعان ذهب أو سمتهم وبريق حجارتهم وأطالس ملابسهم؟ أم بأن نصرخ متظلمين مندّدين فيبعثوا الينا بأتباعهم حاملين علينا بسيوفهم وسنابك خيولهم فتنسحق أجساد نسائنا وصغارنا وتسكر الارض من مجاري دمائنا؟...
أمدد يدك يا يسوع القوي وارحمنا لأن يد الظلوم قوية علينا، او ارسل الموت ليقودنا الى القبور حيث ننام براحة مخفورين بظلّ صليبك الى ساعة مجيئك الثاني، لأن الحياة ليست حياة عندنا، بل هي ظلمة تتسابق فيها الأشباح الشريرة، وواد تدبّ في جوانبه الثعابين المخيفة. ولا الأيام ايام عندنا، بل هي أسياف سنينة يخفيها الليل بين لحف مضاجعنا ويشهرها الصباح فوق رؤوسنا عندما تقودنا محبة البقاء الى الحقول.
ترأف يا يسوع بهذه الجموع المنضمة باسمك في يوم قيامتك من بين الأموات وارحم ذلهم وضعفهم